كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإلانة الحديد، قال ابن عباس وقتادة: صار كالشمع.
وقال الحسن: كالعجين، وكان يعمله من غير نار.
وقال السدي: كالطين المبلول والعجين والشمع، يصرفه كيف شاء من غير نار ولا ضرب مطرقة.
وقيل: أعطي قوة يلين بها الحديد.
وقال مقاتل: وكان يفرغ من الدرع في بعض يوم أو في بعض ليلة ثمنها ألف درهم، وكان داود يتنكر فيسأل الناس عن حاله، فعرض له ملك في صورة إنسان فسأله، فقال: نعم العبد لولا خلة فيه، فقال: وما هي؟ فقال: يرتزق من بيت المال، ولو أكل من عمل يده تمت فضائله، فدعا الله أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه، فعلمه صنعة الدروع وألان له الحديد فأثرى، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين.
وأن في {أن اعمل} مصدرية، وهي على إسقاط حرف الجر، أي ألناه لعمل {سابغات}.
وأجاز الحوفي وغيره أن تكون مفسرة، ولا يصح، لأن من شرطها أن يتقدمها معنى القول، وأن ليس فيه معنى القول.
وقدر بعضهم قبلها فعلًا محذوفًا حتى يصح أن تكون مفسرة، وتقديره: وأمرناه أن اعمل، أي اعمل، ولا ضرورة تدعو إلى هذا المحذوف.
وقرىء: صابغات، بالصاد بدلًا من السين، وتقدم أنها لغة في قوله: وأسبغ عليكم نعمه.
{وقدر في السرد} قال ابن زيد: هو في قدر الحلقة، أي لا تعملها صغيرة فتضعف، فلا يقوى الدرع على الدفاع، ولا كبيرة فينال لابسها من خلالها.
وقال ابن عباس: هو في المسمار، لا يرق فينكسر، ولا يغلظ فيفصم، بالفاء وبالقاف.
وقال قتادة: إن الدروع كانت قبل صفائح كانت ثقالًا، وهو أول من صنع الدرع حلقًا.
والظاهر أن الأمر في قوله: {اعملوا آل داود} لآل داود، وإن لم يجر لهم ذكر.
ويجوز أن يكون أمرًا لداود شرفه الله بأن خاطبه خطاب الجمع.
{ولسليمان الريح} قال الحسن: عقر سليمان الخيل على ما فوتته من صلاة العصر، فأبدله الله خيرًا منها، وأسرع الريح تجري بأمره.
وقرأ الجمهور: {الريح } بالنصب، أي ولسليمان سخرنا الريح؛ وأبو بكر: بالرفع على الابتداء، والخبر في المجرور، ويكون الريح على حذف مضاف، أي تسخير الريح، أو على إضمار الخبر، أي الريح مسخرة.
وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وخالد بن الياس: {الرياح} ، بالرفع جمعًا.
وقال قتادة: كانت تقطع في الغدو إلى قرب الزوال مسيرة شهر، وفي الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر.
وقال الحسن: فخرج من مستقره بالشام يريد تدمر التي بنتها الجن بالصفاح والعمد، فيقيل في أصطخر ويروح منها فيبيت في كابل من أرض خراسان.
والغدو ليس الشهر هو على حذف مضاف، أي جري غدوها، أي جريها في الغدو مسيرة شهر، وجري رواحها، أي جريها في الرواح مسيرة شهر.
وأخبر هنا في الغدو عن الرواح بالزمان وهو شهر، ويعني شهرًا واحدًا كاملًا، ونصب شهر جائز، ولكنه لم يقرأ به فيما أعلم.
وقرأ ابن أبي عبلة: {غدوتها } و{روحتها } على وزن فعلة، وهي المرة الواحدة من غدا وراح.
وقال وهب: كان مستقر سليمان، عليه السلام، بتدمر، وكانت الجن قد بنتها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأشقر، وفيه يقول النابغة:
ألا سليمان قد قال الإله له ** قم في البرية فاصددها عن العبد

وجيش الجن إني قد أذنت لهم ** يبنون تدمر بالصفاح والعمد

ووجدت أبياتًا منقورة في صخرة بأرض يشكر شاهدة لبعض أصحاب سليمان، عليه السلام، وهي:
ونحن ولا حول سوى حول ربنا ** نروح من الأوطان من أرض تدمر

إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا ** مسيرة شهر والغدو لآخر

أناس أعز الله طوعًا نفوسهم ** بنصر ابن داود النبي المطهر

لهم في معاني الدين فضل ورفعة ** وإن نسبوا يومًا فمن خير معشر

وإن ركبوا الريح المطيعة أسرعت ** مبادرة عن يسرها لم تقصر

تظلهم طير صفوف عليهم ** متى رفرفت من فوقهم لم تنشر

انتهى ما حكى وهب.
{وأسلنا له عين القطر} الظاهر أنه جعله له في معدنه عينًا تسيل كعيون الماء، دلالة على نبوته.
قال قتادة: يستعملها فيما يريد.
وعن ابن عباس ومجاهد والسدي: أجريت له ثلاثة أيام بلياليهن، وكانت بأرض اليمن.
قال مجاهد: سالت من صنعاء، ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله، وكان لا يذوب.
وقالت فرقة: المعنى أذبنا له النحاس على نحو ما كان الحديد يلين لداود، عليه السلام.
قالوا: وكانت الأعمال تتأتى منه، وهو بارد دون نار، وعين بمعنى الذات.
وقالوا: لم يكن أولًا ذاب لأحد قبله.
وقال الزمخشري: أراد بها معدن النحاس نبعًا له، كما ألان الحديد لداود، فنبع كما ينبع الماء من العين، فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه، كما قال: {إني أراني أعصر خمرًا} انتهى ويحتمل {من يعمل} أن يكون في موضع نصب، أي وسخرنا من الجن من يعمل، وأن يكون في موضع رفع على الابتداء، وخبره في الجار والمجرور قبله {بإذن ربه} لقوله: {ومن يزغ منهم عن أمرنا}.
وقرأ الجمهور: {يزغ } مضارع زاغ، أي ومن يعدل عن أمرنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان.
وقرىء: {يزغ } بضم الياء من أزاغ: أي ومن بمل ويصرف نفسه عن أمرنا.
{وعذاب السعير} عذاب الآخرة، قاله ابن عباس.
وقال السدي: كان معه ملك بيده سوط من نار، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجني.
ولبعض الباطنية، أو من يشبههم، تحريف في هذه الجمل.
إن تسبيح الجبال هو نوع قوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} وإن تسخير الريح هو أنه راض الخيل وهي كالريح، وإن {غدوها شهر} يكون فرسخًا، لأن من يخرج للتفرج لا يسير في غالب الأمر أشد من فرسخ.
وإلانة الحديد وإسالة القطر هو استخراج ذوبهما بالنار واستعمال الآلات منهما.
{ومن الجن} هم ناس من بني آدم أقوياء شبهوا بهم في قواهم، وهذا تأويل فاسد وخروج بالجملة عما يقوله أهل التفسير في الآية، وتعجيز للقدرة الإلهية، نعوذ بالله من ذلك.
والمحاريب، قال مجاهد: المشاهد، سميت باسم بعضها تجوزًا.
وقال ابن عطية: القصور.
وقال قتادة: كليهما.
وقال ابن زيد: مساكن.
وقيل: ما يصعد اليه بالدرج، كالغرف.
والتماثيل: الصور، وكانت لغير الحيوان.
وقال الضحاك: كانت تماثيل حيوان، وكان عملها جائزًا في ذلك الشرع.
وقال الزمخشري: هي صور الملائكة والنبيين، والصالحين، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام، ليراها الناس، فيعبدوا نحو عبادتهم، وهذا مما يجوز أن يختلف فيه الشرائع، لأنه ليس من مقبحات الفعل، كالظلم والكذب.
وعن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرمًا، أو صورًا محذوفة الرءوس.
انتهى، وفيه بعض حذف.
وقيل: التماثيل طلسمات، فيعمل تمثالًا للتمساح، أو للذباب، أو للبعوض، ويأمر أن لا يتجاوز ذلك الممثل به ما دام ذلك التمثال والتصوير حرام في شريعتنا.
وقد ورد تشديد الوعيد على المصورين، ولبعض العلماء استثناء في شيء منها.
وفي حديث سهل بن حنيف: لعن الله المصورين، ولم يستثن عليه الصلاة والسلام.
وحكى مكي في الهداية أن قومًا أجازوا التصوير، وحكاه النحاس عن قوم واحتجوا بقوله: {وتماثيل} قاله ابن عطية، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه.
وقرىء: {كالجواب} بلا ياء، وهو الأصل، اجتزاء بالكسرة، واجراء الألف واللام مجرى ما عاقبها، وهو التنوين، وكما يحذف مع التنوين يحذف مع ما عاقبه، وهو أل.
و {الراسيات} الثابتات على الأثافي، فلا تنقل ولا تحمل لعظمها.
وقدمت المحاريب على التماثيل، لأن النقوش تكون في الأبنية.
وقدم الجفان على القدور، لأن القدور آلة الطبخ، والجفان آلة الأكل، والطبخ قبل الأكل، لما بين الأبنية الملكية.
وأراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيها، والقدور لا تكون فيها ولا تحضر هناك، ولهذا قال: {راسيات}.
ولما بين حال الجفان، سرى الذهن إلى عظمة ما يطبخ فيه، فذكر القدور للمناسبة، وذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب لاحتياجه إلى قتال الأعداء، وفي حق سليمان المحاريب والتماثيل، لأنه كان ملكًا ابن ملك، قد وطد له أبوه الملك، فكانت حاله حالة سلم، إذ لم يكن أحد يقدر على محاربته.
وقال عقب: {أن اعمل سابغات} و {اعملوا صالحًا} وعقب ما يعمله الجن: {إعملوا آل داود شكرًا} إشارة إلى أن الإنسان لا يستغرق في الدنيا ولا يلتفت إلى زخارفها، وأنه يجب أن يعمل صالحًا، {إعملوا آل داود}.
وقيل: مفعول إعملوا محذوف، أي اعملوا الطاعات وواظبوا عليها شكرًا لربكم على ما أنعم به عليكم، فقيل: انتصب شكرًا على الحال، وقيل: مفعول من أجله، وقيل: مفعول له باعملوا، أي اعملوا عملًا هو الشكر، كالصلاة والصيام والعبادات كلها في أنفسها هي الشكر إذا سدت مسده، وقيل: على المصدر لتضمينه اعملوا اشكروا بالعمل لله شكرًا.
روي أن مصلى آل داود لم يخل قط من قائم يصلي ليلًا ونهارًا، وكانوا يتناوبونه.
وكان سليمان، عليه السلام، يأكل الشعير، ويطعم أهله الخشكار، والمساكين الدرمك، وما شبع قط، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف إن شبعت أن أنس الجياع.
و {الشكور} صيغة مبالغة، وأريد به الجنس.
قال ابن عباس: الشكور: من يشكر على أحواله كلها.
وقال السدي: من يشكر على الشكر.
وقيل: من يرى عجزه عن الشكر، وهذه الجملة تحتمل أن تكون خطابًا لآل داود، وهو الظاهر، وأن تكون خطابًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها تنبيه وتحريض على الشكر.
{فلما قضينا عليه الموت} أي أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت، وأخرجناه إلى حيز الوجود.
وجواب لما النفي الموجب، وهذا يدل على أن لما حرف لا ظرف، خلافًا لمن زعم ذلك، لأنه لو كان ظرفًا لكان الجواب هو العامل وما دخلت عليه، وهي نافية، ولا يعمل ما قبلها فيما بعدها، وقد مضى لنا نظير هذا في يوسف في قوله: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء} فالضمير في {دلهم} عائد على الجن الذين كانوا يعملون له، وكان سليمان قد أمر الجن ببناء صرح له، فبنوه له.
ودخله مختليًا ليصفو له يوم من الدهر من الكدر، فدخل عليه شاب فقال له: كيف دخلت عليّ بغير إذن؟ فقال: إنما دخلت بإذن، قال: ومن أذن لك؟ قال: رب هذا الصرح.
فعلم أنه ملك الموت أتى بقبض روحه، فقال: سبحان الله، هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفا، فقال له: طلبت ما لم يخلق، فاستوثق من الاتكاء على العصا، فقبض روحه، وبقيت الجن تعمل على عادتها.
وكان سليمان قصد تعمية موته، لأنه كان بقي من تمام بناء المسجد عمل سنة، فسأل الله تمامها على يد الإنس والجن، وكان يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة، فكانوا يقولون: إنه يتحنث.
وقيل: إن ملك الموت أعلمه أنه بقي من حياته ساعة، فدعا الشياطين فبنوا له الصرح، وقام يصلي متكئًا على عصاه، فقبض روحه وهو متكىء عليها.
وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه، فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق، فمر واحد منهم فلم يسمع صوته، ثم رجع فلم يسمع، فنظر فإذا هو قد خر ميتًا، وكأن عمره ثلاثًا وخمسين سنة.
ملك بعد موت أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان أبوه قد أسس بنيان المسجد موضع بساط موسى، فمات قبل أن يتمه، ووصى به ابنه، فأمر الشياطين بإتمامه، ومات قبل تمامه.
و {دابة الأرض تأكل} هي سوسة الخشب، وهي الأرضة.
وقيل: ليست سوسة الخشب، لأن السوسة ليست من دواب الأرض، بل هذه حيوان من الأرض شأنه أن يأكل الخشب، وذلك موجود.
وقالت فرقة، منها أبو حاتم: الأرض هنا مصدر أرضت الأبواب، والخشب أكلتها الأرضة فكأنه قال: دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة.
وإذا كان الأرض مصدرًا، كان فعله أرضت الدابة الخشب تأرضه أرضًا فأرض بكسر الراء نحو: جدعت أنفه فجدع.
ويقال: إنه مصدر لفعل مفتوح العين، قراءة ابن عباس.
والعباس بن الفضل: الأرض بفتح الراء، لأن مصدر فعل المطاوع لفعل يكون على فعل نحو: جدع أنفه جدعًا وأكلت الأسنان أكلًا، مطاوع أكلت.
وقيل: الأرض بفتح الراء جمع أرضه، وهو من إضافة العام إلى الخاص، لأن الدابة أعم من الأرض.
وقراءة الجمهور: بسكون الراء، فالمتبادر أنها الأرض المعروفة، وتقدم أنها مصدر لأرضت الدابة الخشب.
وتأكل: حال، أي أكلت منسأته، وهي حال مصاحبة.
وتقدم أن المنسأة هي العصا، وكانت فيما روي من خرنوب، وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس، فتنبت له في محرابه كل سنة شجرة تخبره بمنافعها فيأمر فتقلع، ويتصرف في منافعها، وتغرس لتتناسل.
فلما قرب موته، نبتت شجرة وسألها فقالت: أنا الخرنوب، خرجت لخراب ملكك، فعرف أنه حضر أجله، فاستعد واتخذ منها عصًا واستدعى بزاد سنة، والجن تتوهم أنه يتغذى بالليل.
وروي أن سليمان كان في قبة، وأوصى بعض أهله بكتمان موته عن الإنس والجن سنة ليتم البناء الذي بدىء في زمن داود، فلما مضى لموته سنة، خر عن العصا ونظر إلى مقدار ما تأكله الأرضة يومًا وقيس عليه، فعلم أنها أكلت العصا منه سنة.